نحن وعاشوراء وتشيع الحد الأدنى/د. التقي الشيخ

لا ينظر الموريتانيون إلى عاشوراء باعتباره ظرفا زمانيا لمقتل شهيد الطّف سيدنا الحسين بن علي – رضي الله عنهما – فلا يقيمون فيه المناحات ولا يتلقون فيه العزاء كما عند الشيعة؛ بل إنهم يوّسعون فيه على العيال ويجزلون فيه العطايا ويقع فيه ما يسمى محليا ب”حَلْ اصْررْ” حيث تعمد النساء إلى استخراج مدخراتها من العين والأقوات وتوزيعها على الأهل والجيران، بالإصافة إلى احتضان هذا الشهر لظاهرة”جاجبون” وهي عادة افريقية يجوب فيها المراهقون الأحياء دارا دار حاملين الأواني متلقين ما يجود به سكان الحي من خير، وفي زعمهم أن من كرر تلك الكلمة”جاجبون” التي ربما تكون تحريفا لكلمة “تائبون” سيعيش إلى العام القابل!
طبعا لا يوجد من بين الموريتانيين ـ في الماضي على الأقل ـ من يقول بولاية الفقيه أو برجعة الإمام أو بمصحف فاطمة الذي هو وحي لم يفرط في شيء حتى ولو كان ذلك الشيء “أرش الخدش” حسب زعم الشيعة، كما أنه ليس من بينهم من يستطرد في فضل علي ـ كرم الله وجهه ـ الحوادث التي يعتدون بها كحادثتي الكساء وغدير خم ، أما سب الشيخين وأُم المؤمنين والتحامل على بقية غرماء الشيعة من الصحابة ـ رضوان الله على الجميع ـ فهو من التشيع الذي تمجه وتلفظه الذائقة الدينية لساكنة هذا المنكب البرزخي.

نعم ؛لا يمكن ونحن مكب لأمشاج من المعتقدات الدينية المشوهة بحكم برزخيتنا وموقعنا بين عمالتين تتلاقح فيهما التعاليم الإسلامية والتقاليد الوثنية أن نطمح إلى تنقية آرائنا وأهوائنا من الشوائب ، وإنما الطموح والمرمي أن نحاصر تلك الشوائب في الزاوية الضيقة وأن لا نسمح لها بالولوج إلى كنه المعتقد وحقيقة الإيمان.

قد لا نستغرب ملاحظة بعض مظاهر التشيع في بلادنا بحكم قربنا من منطقة كانت في الغابر مسرحا لنفوذ العبيديين والأدارسة الذين غرسوا فسيلة التشيع وكانوا متنفسا لرئته بعد أن حكم عليه وعليهم العباسيون بالجلاء؛ لكن تلك المظاهر قد صُنعت على أعين أهل السنة فلم تتجاوز الضوابط الشرعية ولم تصل السقف الذي ترفعه مختلف طوائف الشيعة حدا مقبولا من التشيع ؛ بمعنى آخر فإن تلك الفسيلة لم تلق من الرعاية والتعهد ما يلزم فلم تلد بُسرا!
أجل ؛ إننا أمة تحب الهاشميين حبا جما وتقدر الطالبيين تقدير كبيرا وتحترم الصحابة ـ كل الصحابة ـ احتراما مستحقا ومع كل ذلك الحب والتقدير و الاحترام تلمح في ثقافتنا الشعبية اهتماما خاصا بذرية الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ يتجلى ذلك في أُمور منها :

ـ أننا نكتب في جوانب اللحد قبل أن ننزل فيه صاحبه اسم فاطمة بنت أسد ـ رضي الله عنها ـ وهي والدة الإمام علي تبركا وطمعا في التخفيف من عذاب القبر.

ـ أننا نخلع على التوأم اسم الحسن والحسين سبطي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وابني الإمام علي ـ كرم الله وجهه ورضي عنهما ـ كما أن أغلب أسماء نسائنا هو فاطمة بالدرجة الأُولى وقد نحورها فتصبح فاطم أو افطيم ..كما تجد عندنا أسما ء من قبيل “الزهرة” و”البتول” ولا يخفى أننا بذلك كله نرعى حول حمى بضعة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاطمة الزهراء البتول ـ رضي الله عنها ـ

ـ أن تراثنا الشعبي زاخر بالإشارة لجميع أفراد بيت الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ ففي ما يعرف ب”المدح” وهو نشاط فني شعبي تلاحظ بروز مكانة الإمام وتفضيله أحيانا على بعض الصحابة:

يللالِ مفكرشْ عمرْ@ فلْفتْنَ يعبَّرْ بلفينْ
يللالِ مفكرش حيدرْ@ إفاتنْ فتنتْ عُمَرينْ
ف” حيدر” هو الإمام علي وقد أصبحت هذه الكلمة علما على كل شريف ، بل إنها غدت تطلق على كل من تريد أن تمجده وتمدحه أمام الناس.

وفي نص آخر يقول المداحون:
فمْنين الِّ تخلكْ حصرَ@ عالِ يبرزْ لبرازْ ازينْ
أسكِ علي لا فخرَ @واسكِ يالحسن والحسين

وفي الجلسة الطربية المعروفة بـ” أزوان ” وفي جميع المقامات يحضر ذكر الطالبيين وخاصة إذا تعلق الأمر بالمقاطع الحماسية فنسمع الفنانين ينشدون وكأنهم في لحظة حلول صوفي الأبيات المعزوة للإمام الحسين رضي الله عنه:

أنا ابن علي الحبر من آل هاشم
كفاني بهذا مفــــخرا حين أفخر
وفاطمــة أمي ســــلالة أحـمد
وعمي يدعى ذو الجناحين جعفر
وفينا كتاب اللــه أُنزل صـادقا
وفينا الهدى والوحي والخير يذكر

ثم يفردون الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ بوصلة خاصة غاية في الحماسة حين يرددون في ” عراي اسروز”

إذا ما مُقلتي رمدت فكُحلي
تراب مس جلد أبي تراب
هو البكاء في المحراب ليلا
هو الضحاك أيام الضراب

أما ذو الفقارأو” سيف عال” فله في الميتولوجيا الشعبية عندنا مشاهد لا يطالها النسيان منها ما دار بين الإمام ـ كرم الله وجهه ـ وبين أُم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ يوم الجمل مما تتداوله العامة في انبهارعفوي بذلك السيف المشهور.

وقد كان ذكر الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ حاضرا في أذهان أُدبائنا وشعرائنا حضورا كبيرا شكل خلفية أدبية لكثير من النصوص الشعرية؛يقول الشاعر علي ولد أبي الحسني لمن طلب منه أن يعتزي:

يا من يسائلني عني ليعرفني
فاهُ إلى فيَّ من أي الورى نسبي
زوج البتول سميي إن جهلت بنا
ومن أبي طالب ذاك المضاف أبي
فليس زوج البتول سوى (علي) وليس المضاف في “أبي طالب” سوى (أبي)

أما الشاعرالطريف محمد لمين ولد الشيخ المعلوم البوصادي فيقول متغزلا ومستخدما الدعاء الملازم لذكر الإمام علي:

وفاطمة منها إذا نلت لثمة
فذلك تكريم لوجهي ومنزهُ
فإن كرم الرحمن من بعدنا فتى
ببنت علي كرم الله وجهه
إضافة إلى ما سبق فإننا نلاحظ انتشار العمائم السود والبيض في رجال مجتمعنا وأن تلك العمائم ترمز إلى مستوى متفاوت من الأُبهة والتقدير شأنها عند إخوتنا الشيعة!

تلك بعض مظاهر التشيع العفوي في موريتانا تعرضنا لها ونحن نرى موجة تشيع دافقة تغمر مجتمعنا هذه الأيام تترجمها ندوات ومقالات ومقابلات وتراخيص لما يسمى بالحسينيات مما يقوض تشيعنا العفوي الذي يجد فيه كل الصحابة إلى جانب علي ـ رضي الله عن الجميع ـ مكانهم المرموق والمحفور في وعينا الجمعي الذي لم يعرف في يوم من الأيام القول بالوصية والرجعة والغيبة و عصمة الأئمة ولم يسافح النصوص ليا وتأويلا وتغشية لمعتقد صحيح مسايرا مللا ونحلا لها تربتها ولها عصبتها ولها رجالها الذين عرفت بهم الحق دون الرجوع إلى قول الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ للحارث بن حوط ” إنه ملبوس عليك ؛ إن الحق لا يعرف بالرجال ؛ اعرف الحق تعرف أهله “

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى