الدعوة إلى العمل والكسب الطيب/الشيخ القرضاوي
إذا كان المال في نظر الإسلام وسيلة المعيشة الطيبة، وأداة البر والإنفاق في سبيل الله وخير المجتمع؛ فلا بد من السعي إلى تحصيله وكسبه، وفق سنة الله تعالى في ربط المسببات بأسبابها.
ولهذا دعا الإسلام إلى السعي والعمل، وحذَّر من البطالة والكسل. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهُِ} (الملك:15)، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة:10)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما أكل أحد طعامًا قط؛ خيرًا من أن يأكل من عمل يده”. ويُنفِّر من سؤال الناس تنفيرًا كبيرًا فيقول: “ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم”.
ولا يكتفى بالدعوة إلى العمل الدنيوي؛ بل يُضفي عليه صفة العبادة والقربة إلى الله؛ إذا صحت فيه النية، وروعيت حدود الله. في الحديث: “إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا؛ فهو في سبيل الله، وان كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين؛ فهو في سبيل الله، وان كان خرج يسعى على نفسه يعفها؛ فهو في سبيل الله”.
وفى الحث على الزراعة يقول: “ما من مسلم يزرع زرعًا أو يغرس غرسًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة؛ إلا كان له به صدقة”. وفى التجارة يقول: “التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء”. وفي الرعي يقول: “ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم، وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط”. وفى الصناعة يضرب لهم المثل بـ “داود”، الذي ألان الله في يديه الحديد ليصنع منه الدروع السابغات: “إن نبي الله داود كان لا يأكل إلا من عمل يده”.
ويحارب النبي صلى الله عليه وسلم ما شاع عند العرب من احتقار الحرف والأعمال اليدوية، واتكال بعضهم على سؤال كبراء القوم وزعماء العشائر؛ فبيَّن لهم أن كل عمل نافع هو عمل شريف كريم، مهما تكن ضآلة الربح من ورائه، ومهما تكن نظرة الناس إليه فيقول: “لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها، فيكف الله بها وجهه؛ خير من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه”.
ومن فروض الكفاية على المسلمين؛ أن يهيئوا العدد المدرب الكافي لكل صناعة أو مهنة يحتاج إليها المجتمع حتى يكتفي المسلمون اكتفاءً ذاتيًا، فيأكلوا مما يزرعون، ويلبسوا مما ينسجون، ويسلحوا جيوشهم بما يصنعون، مهتدين بقول الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (الحديد:25)، وعبارة: {بَأْسٌ شَدِيدٌ} تشير إلى الصناعات الحربية، وعبارة: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} تشير إلى الصناعات المدنية، وما لم يتم ذلك فالمسلمون آثمون، وبخاصة أولو الأمر منهم.
ومن جميل ما نبه عليه بعض حكماء المسلمين: أن العمل والتكسب، وإن كان مباحًا من وجه، فهو واجب من وجه. يقول الإمام الراغب في كتابه القيم “الذريعة إلى مكارم الشريعة”: “التكسب في الدنيا، وإن كان معدودًا من المباحات من وجه؛ فإنه من الواجبات من وجه؛ وذلك أنه لما لم يكن للإنسان الاستقلال بالعبادة إلا بإزالة ضروريات حياته، فإزالتها واجبة؛ لأن كل ما لا يتم الواجب إلا به فواجب كوجوبه. وإذا لم يكن له إلى إزالة ضروراته سبيل إلا بأخذ تعب من الناس؛ فلابد إذن أن يعوضهم تعبًا من عمله؛ وإلا كان ظالمًا، فمن توسع في تناول عمل غيره في مأكله وملبسه ومسكنه وغير ذلك؛ فلا بد أن يعمل لهم عملًا بقدر ما يتناوله منهم؛ وإلا كان ظالمًا لهم، سواء قصدوا إفادته أو لم يقصدوها، فمن رضي بقليل من عملهم فلم يتناول من دنياهم إلا قليلًا؛ يرمى منه بقليل من العمل.. ومن أخذ منهم المنافع ولم يعطهم نفعًا؛ فإنه لم يأتمر لله تعالى في قوله: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى}، ولم يدخل في عموم قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}؛ ولذا ذم من يدعي التصوف فيتعطل عن المكاسب، ولم يكن له علم يؤخذ منه، ولا عمل صالح في الدين يقتدي به. فإنه يأخذ منافع الناس ويضيق عليهم معاشهم، ولا يرد إليهم نفعًا، فلا طائل في مثلهم إلا بأن يكدروا المشارع (المياه)، ويغلوا الأسعار”.
ومن الدلالة على قبح فعل من هذا صنيعه: أن الله تعالى ذم من يأكل مال نفسه إسرافًا وبدارًا؛ فما حال من يأكل مال غيره على ذلك، ولا ينيلهم عوضًا، ولا يرد عليهم بدلًا. ومن واجب ولاء الأمر أن يهيئوا – لكل قادر – العمل الذي يلائمه، ويكتسب منه ما يكفيه ويكفى أسرته، وأن ييسر له من التعليم والتدريب ما يؤهله لهذا العمل.
إن الإسلام يحث على العمل الدنيوي ويباركه، وكل ما يطلبه من المسلم في هذا الأمر؛ هو التوازن بين عمله لمعاشه، وعمله لمعاده، بين أمر دنياه وأمر دينه، بين مطالب جسمه وأشواق قلبه، فلا تلهيه الأولى عن الآخرة، ولا المادة عن الروح.
وقد وصف الله تعالى الصالحين من عباده الذين يرتادون المساجد بقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (النور:36-37)، والواجب على العامل أن يؤدى عمله بأمانة وإتقان، فإحسان العمل فريضة دينية كإحسان العبادة سواء، كما في الحديث الصحيح: “إن الله كتب الإحسان على كل شئ”. وفي الحديث الآخر: “إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملًا أن يتقنه”.
كما على المجتمع المسلم أن يعمل على توفية كل عامل أجره العادل، ولا يبخسه حقه، ولا يؤخر عليه أجره. وفي الحديث: “أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه”. وفى الحديث القدسي عند البخاري: “ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة… وفيهم: “رجل استأجر أجيرًا، فاستوفى منه، ولم يوفه أجره”.
…..
– المصدر: “ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده” لفضيلة الشيخ. د. يوسف القرضاوي
منشور على موقع الشيخ