انتِصافُ الفُقَهاء .. من الأُدبَاء
د. مصطفى زين/مجلة رسالة القضاء
ليس من الصعب على قارئ الأدب ومتذوق جمالياته أن تنبوَ عينه ويتنكّب ذوقه عن كل قول شعري منسوب إلى الفقهاء أو المشتغلين بعلوم الشرع المنكبِّين على مسائل الحلال والحرام، وذلك انسياقا وراء تُهَمة جاهزة جائرة وفكرة نمطية سائدة وتعميم مدخول يرتكز على ما قاله ابن قتيبة “إن في شعر العلماء تكلفا، وهو رديء الصنعة، ليس فيه شيء جاء عن إسماح وسهولة”، وقفَّى على أثره ابن بسام قائلا: “إن أشعار العلماء على قديم الدهر وحديثه بينة التكلف، وشعرهم الذي روي لهم ضعيف”، وتنا قل الناس الفكرة حتى ما تخطئ عينك في أي من كتب الطبقات والمؤرخين عبارة “فلان شعرُه شعر الفقهاء”.
وحتى لا يُظلم الفقهاء نقول بإنصاف إن الفقهاء كسائر من يقرض الشعر يأتون بالغث والسمين والخَرَز والعِلق الثمين، وتنتظم على ألسنتهم أحيانا الكلمات الجميلة ذات الألفاظ القوية والمعاني الجزلة وتساعفهم تارة الأبيات الرقيقة والمعاني العذبة الدقيقة ، كما تنزل بهم القريحة أحيانا أخرى إلى مبتذل القول ومتكلَّف النسج – حاشاهم – ، وهذا شيء مُشاع بين الجميع ولا يسلم منه فحول الشعراء وفطاحلة البيان، أليس الأعشى أبو بصير هو الذي يقول:
لسنا نقاتل بالعصيـ
يِّ ولا نُرامي بالحجاره
ألم يكن بشار على قوته وتمكنه يقول:
رباب ربة البيت
تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات
وديك حسن الصوت
أو ليس أبو العتاهية هو القائل:
يا عتبَ مالي ولكِ
ياليتني لم أركِ
وبنظرة عجلَى في المنتوج الشعري للفقهاء نرى أن لهم حظا لا يستهان به من رائق المعاني وبديع القول في الوصف والفخر.. وفي المدح والمديح.. وحتى في الغزل والنسيب الذي لم يكن يوما منهم بسبيل.
ونحن في هذه اللمحة المقتضبة نقف بك على نماذج من عصور مختلفة تبين لك مصداق ما قلنا وتزيح عن ذهنك ما شوش به مشاغبو الأدباء والمؤرخين.
اقرأْ لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة (أحد افقهاء المدينة السبعة الذين أخذ عنهم الرأي والسنن):
كَتَمتَ الهوَى حَتى أضَرّ بِكَ الكتمُ
وَلامَكَ أقوَامُ، وَلَوْمُهُمُ ظُلْمُ
وَنَمّ عَلَيْكَ الكَاشِحُونَ، وَقبلَهم
عَلَيكَ الهَوَى قد نمّ لَوْ نَفعَ النمُّ
وَزَادَكَ إغرَاءً بِهَا طُولُ هَجْرِهَا
قَدِيماً، وَأبلى لحمَ أعظُمِكَ الهَمّ
فأصْبَحتَ كالنهدِيّ إذْ ماتَ حسرَةً
على إثرِ هِندٍ، أوْ كمَنْ سُقيَ السُّمّ
ألا مَنْ لنَفسٍ لا تَمُوتُ فَيَنقَضي
عَنَاهَا، وَلا تَحيَا حَياةً لها طَعمُ
تَجَنّبتَ إتْيَانَ الحَبِيبِ تَأثّما
ألا إنّ هِجْرَانَ الحَبِيبِ هوَ الإثمُ
فذُقْ هَجرَها، قَد كنتَ تَزْعُمُ أنّهُ
رَشَادٌ، ألا يا رُبّما كَذَبَ الزّعمُ
ثم أصغ إلى عروة بن أذينة أحد نساك المدينة وأحد شيوخ الإمام مالك وهو يقول:
إنّ التي زعمت فؤادك ملّها
خلقت هواك كما خلقت هوى لها
فيك الذى زعمت بها، وكلاكما
أبدى لصاحبه الصّبابة كلّها
ولعمرها لو كان حبّك فوقها
يوما وقد ضحيت إذن لأظلّها
فإذا وجدت لها وساوس سلوة
شفع الضمير إلى الفؤاد فسلّها
بيضاء باكرها النّعيم فصاغها
بلباقة فأدقّها وأجلّها
لمّا عرضت مسلّما، لى حاجة
أخشى صعوبتها، وأرجو ذلّها
منعت تحيّتها فقلت لصاحبى:
ما كان أكثرها لنا وأقلّها
فدنا وقال: لعلّها معذورة
فى بعض رقبتها، فقلت: لعلّها
أما الفقهاء الشناقطة فكانوا على رأي سلفهم المدنيين في هذه القوة الشعرية والبعد عن الإسفاف والركاكة والتمكن في تناول فن الجمال لا يمنعهم من ذلك علو كعبهم في العلوم الشرعية ولا رسوخ أقدامهم في مقامات التصوف، وأقصد هنا تحديدا “الفقهاء الشعراء” أي الذين كان الشعر يشكل غرضا ثانويا من نشاطهم أما “الشعراء الفقهاء” وهم عكس هذه الفئة فليسوا في حاجة للدفاع عنهم لأنهم أصحاب الفن وعمَّار بيت الشعر.
وقد لحظ الدكتور عبد اللطيف الدليشي من مؤرخي الأدب هذا المعنى في الشناقطة فاستغرب “رقة أذواق وعواطف هؤلاء الشعراء العلماء الصوفية المتدينين وهو يحلقون في وصف الخصور والنحور والمطل والوصال والقدود المائسة والعيون الناعسة..”
ولعل من أقدم الأدلة على اشتغال طلبة العلم في هذه البلاد بحوك القريض وإجادته ما أورده الخليل النحوي من أن الإمام ناصر الدين جلد شاعرا وأمر أن يطاف به مصفدا – تورّعا – لأنه نظم هذين البيتين الغزليين الرائعين:
رب حوراء من بني سعد أوس
حبها عالق بذات النفوس
جعلت بيننا وبين الغواني
والكرى والجفون حرب البسوس
غير أن محاولة “تجميد” قرائح طلبة العلم هذه لم تفلح على ما يبدو فتفتقت ألسنتهم شعرا منسابا عبر العصور الموالية، فهذا سيدنا بن الشيخ سيدي وهو من هو يقول:
وإني والنُّهى تنْهى وتجلو
خفايا اللبْسِ في المتشابهيْن
عدتني أنْ أصافيَ كلَّ خلٍّ
مخائلُ من مُداهنةٍ ومين
كلا أخوىَّ يُظِهرُ لي وِداداً
فاعرفُ ما يَسُرُّ كلا الأخين
فمن يَكُ راغباً في القربِ منِى
يجدني دون ماءِ المقلتين
ومن يوثرْ قلايَ فليْسَ شيءٌ
يُوَاصلُ بينهُ أبداً وبيني
وهذا شيخ المشايخ المختار بن بونا الجكني يمتحن تلامذته بوصف هلال رمضان فيقول حرمه بن عبد الجليل العلوي:
هذا الهلال عليه حلة الوصب
فسوف تبكيه ميتا أعين الشهب
كأنما صام شهر الصيف محتسبا
أو هام منذ ليال بابنة العربي
ويقول تلميذ آخر:
بدا الهلال نحيل الجسم كالنون
مكنون بعض وبعضٌ غيرُ مكنون
بدا لنا غير مظنون الظهور كـ”لا”
والدهر يظهر شيئا غير مظنون
(وللأبيات قصة طريفة مذكورة في المراجع)
واستمع إلى إمام التفسير العلامة الشيخ محمد الامين بن محمد المختار الشنقيطي صاحب “أضواء البيان” حين يقول:
أُنْقِذْتُ مِن داءِ الهَوَى بِعلاجِ
شَيبٍ يَزينُ مَفارِقي كالتَّاجِ
قد صَدَّ بي حِلْمُ الأكابرِ عن لَمى
شَفَةِ الفَتاةِ الطَّفلةِ المغناجِ
ماءُ الشَّبيبةِ زارعٌ في صَدْرِها
رُمَّانَتَي رَوْضٍ كَحُقِّ العاجِ
وكأنَّما شَمْسُ الأصيلِ مُذابَةٌ
تَنسابُ فوقَ جَبينِها الوَهَّاجِ
يُحشى لموضِعِ جَنْبِها في خِدْرِها
فوقَ الحشِيَّةِ ناعِمُ الدِّيباجِ
نادَتْ حُداةُ الرَّكبِ حينَ تَرَحَّلوا
فتَزَيَّلوا واللَّيلُ ألْيلُ داجِ
ولا يمكن أن يجادل أحد في قوة نسج هذا الشعر وجزالة معانيه وهو للعلامة سيدي عبد الله بن رازكه العلوي أحد أعلام مدينة شنقيط:
أمكنهُ من بكرِ شعرٍ خرِيدةٍ
نتيجةِ فكرٍ سَلْسَلِ الطبعِ جَيِّدِ
عَرُوبٌ عروسُ الزيّ أندَلُسِيةٌ
مِنَ الأدَبِ الغَصّ الذي روضه ند
مِن اللاءِ يستصبين مينَحْنَ عَنْوَةً
ويَعْهدْنَ في الحرَّاقِ أطيَبَ مَعْهَدِ
ويسلبنَ معقولَ ابنِ زَيدُون غِبْطةً
بأسْلوبِ ما يَسقين من خمرٍ صرخَدِ
مُهَذّبةٌ يَستمْلحُ الذهنُ سرَّها
ويستعْذبُ استرسالها ذوق منشِد
وإذا ما أردنا رقة النسيب فهل يمكننا أن نجد أرق أو أطرف من قول امحمد بن أحمد يورا رحمه الله:
تشوقت الأحبة يوم بانوا
كما اشتاق الحمام إلى الهديل
إذا سلكوا أجارع ذي سبيل
فليس إلى التواصل من سبيل
وإن أك بعد بُعدهمُ بصبر
هممت فقد هممت بمستحيل
كأن القلب من وله وحزن
-غداة رحيلهم- لبنُ الرحيل
وبعدُ ، فتلك ومضة مما أبدعته قرائح الفقهاء في أودية الشعر كلها تدحض ما قيل عنهم من برودة القريحة وخمود العاطفة وهم مع ذلك معذورون في خوض فن ليسوا أهله وقد اعتذر عنهم – محقا- الإمام الشافعي رضي الله عنه بقوله:
ولولا الشعر بالعلماء يزري
لكنت اليوم أشعر من لبيد