الدين الحق وحي من الله، لا منتج محلي

بقلم: عبد الله أمين/إمام جامع الإخلاص

:

دين الله ليس منتجا وطنيا حتى يكون من الوطنية استهلاكه بدل استهلاك المنتجات الأجنبية، إنه وحي منزل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بعث به الله -عز وجل- رسوله -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين كلهم في كل قطر وكل زمان، ولا سبيل للهدى إلا بوحي الله: (وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي) وإذا اختلف الناس في أمر من الأمور -والاختلاف وارد وواقع- فرجوعهم إلى وحي الله واجب متعين، ولو لم يكن في الوحي مخرج من الخلاف وحل للنزاع وعصمة من الضلال لما أمر الله بالرد إليه : (فإن تنازعتم في شيء فرُدُّوه إلى الله والرسول…) (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله).
ومما يعين على إصابة الحق في مسائل الخلاف معرفة نهج القرون المزكاة وما كانوا عليه فيها، فقد زكاهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه…) (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم…)
فالدعوة إلى الكتاب والسنة وإلى ما كان عليه سلف الأمة أمر مطلوب شرعا مستوجب ثناء جميلا من جميع المسلمين على من يقوم به ويحمل لواءه.
لقد بين كتاب الله -الذي نزل تبيانا لكل شيء، والذي لا يضل المتمسك به أبدا- ما على المسلم أن يعتقده في حق الله -عز وجل- وفي سائر أركان الإيمان، وما يتزكى به من يريد تزكية نفسه حتى يكون محسنا في عبادته لله، وما عليه أن يعمل به في شؤون حياته وأحكامه العملية -عبادات ومعاملات- وفصلت ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وطالِبُ الحق بصدق وإخلاص يدرك أن المسلم في بابي الإيمان والإحسان -أو الاعتقاد والتزكية- يكفيه ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانت عليه القرون المزكاة من تسليم وإذعان للنصوص دون تأويل أو تحريف أو انتحال، أو خوض في متاهات أحدثتها بدعة أنكرها من أدركها من السلف -ومنهم الإمام مالك رحمه الله- الذي يتخذه البعض صنما من تمر، ويعاملونه كما لو كان عاطلا من الاعتقاد والتزكية، فلا يأخذون عنه إلا الفقه ادّعاءً- وأعني بالبدعة هنا بدعة علم الكلام-
فهذان البابان لا تعلق لهما بالأمور المتجددة، بل هما من الثوابت.
وفي باب الأحكام العملية يدرك كل طالب علم أن في الكتاب والسنة غنيةً في الأمور غير المتجددة، وأن اجتهاد العلماء في النوازل والمستجدات – وإن كان سائغا بل مطلوبا- غير ملزم حتى ينعقد عليه الإجماع، وأنه لا مذهب لمجتهد فيما فيه نص، وإذا حصل أن اجتهد عالم في أمر منصوص عليه لعدم صحة النص لديه أو لقيام معارض أقوى عنده، أو لعدم بلوغ النص له، فهو معذور مأجور على اجتهاده، ومن قلده مع انتفاء الأعذار المشار إليها فليس بمعذور.
وهذا كله أمر مستفيض عن علماء الأمة منذ عصر الصحابة، كإنكار ابن عباس على من عارض التمتع محتجا برأي أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وإنكار ابن عمر على من احتج برأي أبيه عمر في المسألة نفسها، وإنكار ابن مسعود -ومعه أبو موسى الأشعري- على تلك الحلق التي عندها نوى تعدّ به الذكر وفي كل واحدة منها رجل يحدد لهم أعداد كل ذكر من تسبيح وتكبير وتحميد وتهليل…
وهلم جرا.
وهكذا أنكر الإمام مالك -رحمه الله- على من سأل عن الاستواء، وأجاب بما مضمونه الجمع بين التسليم للنص دون تأويل وبين نفي التكييف والتشبيه، وبكى على فراش الموت خوفا من تبعة تقليد الناس له في اجتهاده استحضارا لاحتمال الخطأ فيه مع إدراكه أن الخطأ في الاجتهاد معفو عنه… والتمثيل على هذا الأمر يحجّمه جدا، فهو أمر لم يخل منه عصر من العصور ولا مذهب من المذاهب ولا قطر من الأقطار…
ولم يكن إقرار العلماء للمذاهب الفقهية، وقبولهم التفقه على أساسها، ولا الاقتناع بأن تراث الأمة الفقهي الاجتهادي مصدر ثراء وتنمية لملكة الاجتهاد والاستنباط، وعون على استيعاب المسائل وتقييدها، لم يكن شيء من ذلك مانعا للعلماء الراسخين -على مدار العصور- من رفض التعصب المذهبي وإنكاره، والدعوة إلى عرض التراث الفقهي على الكتاب والسنة وغربلته بهما.
وفي هذا القطر كانت دعوة الرجوع إلى الكتاب والسنة دعوة ظاهرة مشهورة،*** فلم يخل جيل ولا جهة، بل ربما ولا قبيلة تقريبا ممن يدعون إلى ترك التعصب للمذاهب أو للمشايخ، الذين رسّخت طرقهم لدى الناس لزوم اتخاذ شيخ وتوحيدِه في الاتباع -حيث لا يمكن للمريد أن يأخذ الهدى والخير عن غير شيخه، ولا أن يتخذ غير شيخه قدوة، ولو كان أهدى أهل عصره سبيلا وأقومهم قيلا، لأنه يخشى أن يغار الشيخ فيسلبه الإيمان من أصله فما دونه-
إن أول دولة قامت على هذه الأرض كانت على منهج السلف: “دولة المرابطين”، فمن يرى الدين منتجا محليا أو تراثا وطنيا فحري به أن يدعو إلى ما كان عليه المرابطون.
وجاءت قرون السيبة، وظل دعاة هذا المنهج موجودين ظاهرين، وجاء الاستعمار، فكان صاحب الاجتهاد الذي مهّد لوجود دولة مركزية -تمنع سفك الدماء وهتك الأعراض ونهب الأموال- حاملا للواء الدعوة إلى الكتاب والسنة : الشيخ سيديَّ باب -رحمه الله- ثم جاء الاستقلال فكان أبرز علماء البلد رسميا وشعببا -على السواء- رجلين يحملان دعوة الرجوع إلى الكتاب والسنة: الشيخ الإمام: بداه بن البوصيري والشيخ العلامة: محمد سالم بن عدود.
فما أدري ما سر ضيق البعض ذرعا بهذه الدعوة المباركة، وما علاقة هذا الضيق بوجود إمام يحمل المنهج نفسه على المنبر الأكبر في البلد، مع أنه لا مطعن في علمه وأهليته.
لذلك كله يكون من غير المفهوم تحريض الدولة على حمَلة منهج ما، ولا سيما منهجا كان ذلك شأنه علميا، وكان هذا تاريخه عمليا، كما ليس مفهوما محاولة حملها على تبني منهج معين، لم يزكِّه الكتاب والسنة، فتكون له حصانة الدليل، ولم تعد العوامل التي يُدَّعى أنه قام أصلا بسببها موجودة: الدفاع عن العقيدة بمثل سلاح مخالفيها، كحال علم الكلام، ولم تعد تزكية النفوس به موجودة، بل أصبح سباقا للكسب ومنافسة على الحظوظ، وشغلا بالمخلوق عن الخالق وعبادته، بدل الزهد في المخلوق وفيما عنده، حال كثير من أدعياء التربية، وهو الواقع الذي حمل القلة الصادقة من أهل التربية على الدعوة إلى تصفية الطريق وتنقيتها من البدع الخطيرة؛ ولم يعد هناك خفاء “في أن من عمل بالراجح ما خرج عن مذهب الإمام مالك”، كما لا خفاء “في أن تفويض السلف لا ينافي الإجراء على الظواهر” لو تلقينا النصوص كما تلقاها الصدر الأول منتفيا عندهم تلقائيا تشبيه الله بالمخلوق أو تكييف صفاته وفق مدركات خلقه.
وما عاد خافيا أن من أدعياء التربية من هو:
آكل مال الناس بالباطل
مزخرف القول بلا طائل
مميلهم عن سنة المصطفى
إلى طريق البدعة المائل
ليس ممكنا حصار الفكر والاعتقاد بوسائل الإرهاب والتضييق والكبت، ولا يلجأ إلى التحريض على تلك الأساليب إلا من صوّح عنده نبت الحجة والبرهان، وإلا فلماذا العدول عن مقارعة الحجة بالحجة، والدليل بالدليل.
لن يكون ما يختلف فيه المسلمون في تلك المجالات *-مما يسوغ فيه الخلاف-* سببا للتدابر والتعادي، إلا إذا اتبعت أساليب المكر والتحريض، أو وصل الأمر بهم إلى حد تكفير المعين صريحا أو ضمنيا كاستباحة دمه، أو استباحة التفريق بين المرء وزوجه بناء على منهجهما…
وعلاج الانحراف في ذا وذاك وذلك إنما يكون بالعلم الصحيح والتربية السليمة، والتعاون على البر والتقوى، واتخاذ الكتاب والسنة منطلقا ومرجعا، والتسليم بأن لهما وحدهما العصمة، وفيهما الهدى، وأن كل ما سواهما منه مقبول ومردود؛ مع دعاء الله عز وجل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)
وأما ما لا يسوغ فيه الخلاف مما يعلم ضرورة مخالفته لمحكمات الكتاب والسنة فلا ينفع أهلَه البحثُ لهم عن تأويل، وعلى المحبّ لهم والمشفق عليهم أن يمحض لهم النصح بالتوبة منه، والرجوع إلى محكمات الدين، وإلا فإنه إنما يغرّهم ويخدعهم ويخادع نفسه، وعلينا جميعا أن نكون ناصحين، فالمؤمنون نصحة، لا غششة…
حري بمن أراد أن يحرض الدولة أن يكون تحريضه على منظمات التنصير والتهويد، وعلى مدارس محاربة الفطرة السوية، وعلى دعاة الإلحاد… وعلى ما كان من هذا القبيل الذي لا يختلف المسلمون في تجريمه، والذي يجرمه القانون المعتمد المستمد من الشريعة الإسلامية…

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى