مساجلات الكرة بين المحظرة والعولمة
هذا الجدل الدائر حول مطاردة كرة القدم في موسمها الدوري الأهم كأس العالَم هذه الأيام بين منغمس في الكرة وقضاياها بالغٍ في ذلك درجة الفناء، وبين معرض عنها إعراضا كليا، ذكَّرني الجدل بسجال علمي دار عام 1426هـ-2005م في محظرة النباغية -حرسها الله- بين ندبين جكنيين أحدهما يقود تيار الإعراض عن الكرة، وهو الصديق “الوقور الزِّمِّيت” العيلم عالم القراءات والفنون الشيخ ولد امَّو شيخ محظرة كَيْفَه الآن، والثاني يقوده عالم القضاة وقاضي العلماء العلامة زينة طلاب المحاظر “المتنور” سيداتي ولد أحمد جكن اللاعب االكروي الماهر الذي آثر العلم والتدريس والقضاء.
في السجال العلمي الذي جاء في أراجيز ساخنة يرى الشيخ ولد امو وشيعته أن الكرة مضيعة للوقت وتلازم لعبها أوصاف مخلة بمروءة طالب العلم وأنها لم تكن من “عمل السلف” فقال في براعة استهلال بديعة تنبئ عن مقصده ومذهبه الفقهي في لعب الكرة من نظمه الذي سماه ’تجريح الشاهد من لاعب الكرة والمُشاهد’:
الحمد لله وصلى الوارثْ …. على الذي لم يكُ طورا عابثْ
والآل والصحب الكرام البرره ….. من ليس من نهجهمُ ضرب الكرهْ
هذا ولما كان بعض الطلبه …. ممن له في العلم أيُّ مرتبه
أراد أن يحاكي النصارى … ويقتفي من نهجهم آثارا
وخلعوا السروال والفضفاضه …. ولبَّسوا بشبهة الرياضه
أردت أن أبيِنَ ما يبدو لي … فيه وبعض السادة العدول.
وذكر أسماء لامعة من طلاب المحظرة حينها مثل شيخنا العلامة الشيخ يعقوب ولد ابيه شيخ محظرة النعيم، وترجح لدى الشيخ الوقور ولد امو أن لعب الكرة لا ينبغي لطالب العلم لما فيه من التمادي في اتباع “الهوى” و”الأشر”، ولما فيها من تضييع الدين والوقار والسكينة، وتساءل في طرافة:
وتساءل مستنكرا في طرافة معهودة منه على وقاره:
فهل ترى الوقار يبقى عندما … تمدُّ رجلك إلى جو السماء
وعندما تسقط أرضا -هل ترى …. تبقى السكنة- وتستف الثرى؟.
رأى الشيخ سيداتي وهو “المتنور العتيد” أن ما سماه “قرينه وقريعه” ول امو وقارا إنما هو محض الآصار والأغلال، وأن منع الطلاب من لعب الكرة ضرب من التشدد والتنطع، فقال مستهلا صارخا في وجه “القعدة” عن الكرة والملاعب في نظم سماه “ترسانة النضال بمنطق العلم والاعتدال”:
الحمد لله الذي أزالا … بشرعه الآصار والأغلالا
وجعل الدين الحنيف وسطا …بسوطه على المشدد سطا
نحمده للرحمة المهداة … لنا عليه أفضل الصلاة
من ذَمَّ أهل الزيغ والتنطع … فأصبحوا كنعجة ببلقع
هذا وقد رأيت ذا الزمانا ….. قد أصبح الهوى به فتانا
قد نقض الدين القويم حجرا … فحجرا كما النبي أخبرا
لذاك بعض الكبرا يريد …. تحريم ما أحله المريد
من لعب للكرة الغراء … ملتزم الوقار والحياء
يلعبها شببة أنجاب … كلهمُ في السمت لا يعاب
تجمعوا من معظم الأنجاء … في طلعة كأنجم السماء
أثنى سيداتي فنيا على نظم الشيخ الرائق الجذاب الصادر عن عبقرية، ورأى شرعيا أنه مجانف للصواب، وأنه لم يكترث للنصوص الشرعية الكثيرة، وانطلق القاضي سيداتي من جواز الكرة من عموم آية الإعداد، ومن حديث “المؤمن القوي”، وكأن سيداني رأى أن أقوى دليل جلبه الشيخ امو في نظمه الافتتاحي هو التشبه بالنصارى فقال سيداتي:
ولا يُذم القوى للنصارى … فيما إلى مصلحة قد صارا
وذكر سيداتي عددا من “الأجلاء” الذين يدعمون رأيه ومنهم:
يحيى الفقيه ابن حبيب الله …. من كان في الكرة ذا مواهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(ــب)
ثم رد الشيخ ولد امو بنظم آخر قوَّى فيه حججه الأولى، ونقض حجج سيداتي في آية الإعداد وحديث “المؤمن القوي”، والقوة عند الشيخ يقينية إيمانية لا جسمانية، وثنى سيداتي بنظم آخر، وثلث الشيخ بنظم آخر ليختم نقاش علمي بديع وأنظام رشيقة تداخلت فيها الأصول والقواعد والنصوص في “جو رياضي” لم يخل من “تأنيب وتكذيب” “مغتفرين” لأن “ركن المودة” من طلاب المحاظر “لا يزحزحه” جدال ولو أتى على أشرعة رياح العولة الطاغية التي أدخلت قضايا الكرة وحياة نجومها كل مدر ووبر.
كانت الكرة في المحاظر والقرى عفوية تأخذ ساعة أو ساعتين من حياة الطلاب والشباب في يومي العطلة لكن الكرة اليوم في العالم أضحت تشكل المجتمع المعاصر، وتؤثر على حياته الاقتصادية والسياسية، ولها ارتباط بـ”العلاقات الدولية، والقضايا المتعلقة بالهوية الوطنية، وحقوق المرأة، ومجتمعات اللاجئين، وإصلاح العمل، والحراك الاجتماعي، وحقوق البث الإعلامي”، كما في كتاب ’كرة القدم في الشرق الأوسط: الدولة والمجتمع واللعبة الجميلة’ الذي أصدرته جامعة جورج تاون هذا العام، وفي كتاب ’كرة القدم بين الشمس والظل’ تفسير متفنن للتعلق الآسر بهذه الدائرة المدللة بالضرب والركل في أنحاء العالم وفي أمريكا اللاتينية التي أخرجت إدواردو غاليانو وغيره من ساحري الكلمة والأرجل، وما علاقتي بالكرة إلا علاقة هذا الروائي بها “فأنا أسوأ قدم متخشبة شهدتها ملاعب الأعياء في بلادي”.
د. إبراهيم الدويري