رقص على رفات الأجداد: فصامنا السياسي في مهرجان المدائن
أ. باب أحمد محمد القصري
الفصام أو الانفصام الشخصي مرض شائع ذائع، تترتب عليه آثار عميقة ومشاكل في التفكير والانفعالات والسلوك، بل قد تستبد بصاحبه الضلالات والمعتقدات الخاطئة، والأحاديث والسلوكيات غير المنظمة، مع رؤية وتفسير الواقع بخلاف ما هو عليه، وقد تتفاقم الحالة فيكون مآلها الانتحار، وبما أن الفصام “اضطراب عقلي يؤثر على سلوك الإنسان وتفكيره، ويجعله غير مدرك لما يقوم به من أفعال” فإن حياة المصاب تطبعها التناقضات وعدم السواء، والقيام بالفعل وضده في الوقت ذاته.
هذا الداء العياء قد ينتقل من “فصام شخصي” على مستوى الأفراد إلى “مؤسسي” على مستوى الشخصيات الاعتبارية، باختلاف اختصاصاتها وصفتها القانونية، وهو ما اصطلح على تسميته في الأدبيات السياسية والنفسية بالفصام السياسي، حيث تصاغ السياسيات وتتحدد الأهداف وتنفذ الخطط والمشاريع على غير هدى، ودون اعتبار للاحتياجات والإمكانات، أو نظر موضوعي فني عادل لقياس وتقويم الأداء، وحين يستحكم الفصام في أغلب قطاعات الدولة فإن على متخذي القرار انتهاج خطة علاجية عاجلة، قبل أن يؤول الوضع إلى حالة من الشلل والفشل المزمن، لأن التسويف أو عدم الاكتراث انتحار سياسي يؤشر لغياب الحكمة والحكامة.
ومع أن أعراض وأمراض الفصام تحاصرك أنى اتجهت في هذا البلد المنكوب، فإن ما شاهدناه أخيرا في مهرجان مدائن التراث، الملتئم بمدينة تيشيت التاريخية كان مثالا صارخا، ومؤشرا تمثيليا مركبا لفصامنا السياسي والديني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والأخلاقي، وكانت أغلب المحطات والفعاليات نشازا، لا تتسق وطبيعة الأهداف ولا السياق ولا المكان.
لم يكن الإدريسي الشريف عبد المؤمن بن صالح – حين غادر شيخه القاضي عياض بن موسى وهاجر للصحراء – فنانا ولا قائد فرقة فلكلورية، ولم يؤسس تيشيت على الرقص والمجون والفسوق والعصيان، ولا البذخ والإسراف والغلول، بل أسس حاضرته على التقوى والتقلل من أول يوم، وابتنى المساجد والمكتبات وخرج طلاب العلم، حتى غدت المدينة إحدى منارات الإسلام في الصحراء، وشكلت مع شقيقاتها إرثا علميا وحضاريا باقيا، وكانت من المفاخر المعدودة لشنقيط العالمة.
إن من مقتضى المنطق والمصلحة أن ننطلق من هوية تيشيت وخصوصيتها الحضارية، وننظر في واقعها وندرس بيئتها، لنستشرف المستقبل ونضع أهداف التنمية والإحياء، فنوجه الموارد المحدودة لبرامج تنموية مستديمة تخفف من موجة النزوح، وتمهد للهجرة العكسية، وتساعد السكان على الصمود، بدءا بتوفير خدمات الماء والكهرباء والصحة والتعليم، وفك العزلة، وانتهاء باستحداث بند ثابت في ميزانية الدولة يوجه لصيانة تراث المدائن، وإحياء محاظرها ومكتباتها التي كانت سر تفوقها وضامن بقائها، أما الكرنفالات الاحتفالية والشعر وخطب “الجبل الصردح والهواء الصحصح” المستهلكة، وجلب ساكنة العاصمة وموظفي الدولة المعطلة، كل ذلك لن يحقق إحياء ولا تنمية لأهلنا (المغبرين غبارا لا مثيل له).
لقد تبخرت ثروات طائلة في الميزانية المباشرة للمهرجان، وفي الضيافة الباذخة، وفي حشد الملأ واستجلاب سكان العاصمة في المركبات الفارهة، إضافة إلى تكلفة تعطيل عمل مؤسسات الدولة ومعايش الناس، وما من شك فإن أن هذه الفاتورة الباهظة كانت تكفي لإحياء المدينة والارتقاء بتراثها، وأن توجيهها لذلك هو وحده القرار السوي السليم، الذي يمليه الدين والعقل والمصلحة، وأن عائده الاستراتيجي عميق بعيد الأثر اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا.
دعونا نحسن الظن ونعذر منظم المهرجان بالجهل، فنفترض أنه كان صاحب طيبة وغفلة، وأن الاعتبارات السالفة لم تدر بخلده، وأنه كان يظن تيشيت قرية مندثرة من عهد الرومان، وأنها من تنويش أقرب، أليس يكفي العذاب الأدنى ببنيات الطريق من نواكشوط إلى تجكجة، والعذاب الأكبر من تجكجة إلى تيشيت، ليفيق صاحبنا من غفلته وفصامه، فينادي في الناس: العودة العودة، النجاء النجاء، إنكم لعلى باب هلكة، وأمامكم مهامه يضل فيها الخريت، جرداء قاحلة لا ماء فيها ولا حياة، يجلل أفقها (غبار لا مثيل له)، إنها لا تليق بكم أيها المنعمون المترفون!.
لم يستبن القوم الرشد، ولم تكفهم 840 كلم من العناء ليتحرك الإحساس ويستيقظ الضمير، حتى بدت معالم وأطلال المدينة، فإذا هي مقبرة كبيرة: عظام مفرقة وآثار عتيقة، ألا يناسب المقامَ هنا تذكر الموت والآخرة والاعتبار والاتعاظ، واللهج بالدعاء: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، فقد قال القاسمي في “محاسن التأويل” عن المعتبرين: (هم السائرون الذاهبون في الديار لأجل الوقوف على الآثار، توصلا للعظة بها والاعتبار).
صَـاح هــذي قبورنا تملأ الـرحْـ ** ـب فأين القبور من عهد عاد؟
خفف الوطء ما أظن أديم الْـ **أرض إلا من هــذه الأجســـــــــــــــــاد
وقبيـــح بنا وإن قدم الــعهْـ**ـد هــــــــوان الآبــــــــــاء والأجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــداد.
لم يكن شيء من ذلك أيضا، بل كان ما كان من إسراف وفساد وصخب ونصب وطرب، حضره وأقره الصغير والكبير، والعالم والجاهل، والمسؤول وغير المسؤول، مع المجاهرة والنقل الحي، دون أن يغار أحد أو يأتمر بمعروف أو ينهى عن منكر، فسقطت هيبة الشيوخ لدى العامة، وهاج الناس وماجوا أياما، ثم انتهت السكرة، وغادر الضيوف المقبرة الكبيرة كما جاؤوا: عظاما مكسرة وآثارا عتيقة، وكأنها أضغاث أحلام تزور وتمضي، لتتكرر في العام القابل، وعلى أطلال مدينة أخرى، ويستمر الرقص والمجون فوق رفات آباء وأجداد آخرين.