لماذا لا أؤيد عمل المرأة!

الأستاذ: محمد إلهامي- باحث مصري

كنتُ أتصور أن الإسلام لا يحبذ عمل المرأة حفاظا عليها وعلى عفتها وبراءة نفسها أن تخالط الرجال وتصادم صعوبات الحياة وخشونتها!

بعد أن تزوجت وأنجبتُ، رأيت أمورا أخرى، إن حجم ما تقوم به المرأة في رعاية الزوج والأبناء هو أمرٌ لا يستطيعه الرجال بحال، وهو أمرٌ لا يستقيم معه أن تكون المرأة عاملة، فهذه التي تعمل هي بالقطع وبلا ريب ستقصر في شأن بيتها وزوجها وأولادها!

وأشقى الناس وأولاهم بالتعاطف والشفقة امرأة متزوجة ذات أولاد وتعمل!! ولا تقصر في عملها ولا بيتها.. ينبغي أن تكون هذه المرأة إنسانا خارقا أشبه بالأساطير!!!

وكنتُ -قبل الزواج والإنجاب- أشفق على المرأة التي تعمل لما هي مضطرة إليه من هذه المشقة، فصرتُ بعد هذا أشفق عليها وعلى أبنائها وعلى زوجها جميعًا..

ورغم مرور أكثر من عشرين سنة على خروجي من ديار الصعيد، ومشاهدتي أحوال النساء في الوجه البحري والقاهرة، ثم في دول الخليج، ثم في بعض بلاد أوروبا وآسيا.. رغم هذا كله، فلا يزال مشهد امرأة تجر حقيبة ثقيلة يزعجني ويعكر مزاج يومي.

ثم ما يلبث أن يشوقني هذا المشهد إلى ذلك الزمن الذي عشته في الصعيد حيث لم يكن ذلك ممكنا، ولو فُرِض أن اضطرت امرأة لحمل شيء ثقيل فإنه يهرع من حولها من الرجال ليحملوه عنها، ويرون ذلك واجبا عليهم بل فضيحة في حقهم أن تسير امرأة في جوارهم تعاني من حمل شيء ثقيل عنها.. فإن فُرِضَ أنهم غفلوا عنها فإن ترى من حقها أن تأمر أقرب الرجال إليها أن يحملوا عنها، وما يملك الرجل المأمور أن يتخلف!!

هذا غير ما أتذكره من أخبار مجتمعاتنا المسلمة في عصور ما قبل الحداثة من أخبار التكافل والتعاضد والتناصر، حيث يرى فتيان الحي أنهم مسؤولون عن بناته كمسؤوليتهم عن أخواتهم، وأمهات الحي أمهات للجميع، تأمر الواحدة منها الفتى -سواء عرفته أم لم تعرفه- أن يحمل عنها ما تحمل أو ترسله في شأن لها يشتريه أو يوصله.. وكم سمعنا وقرأنا في كتبنا -بل وفي كتب المستشرقين وعلماء الاجتماع الغربيين إذ درسوا بلادنا- عن قصص المرأة التي يغيب عنها زوجها فما عليها إلا أن تعجن عجينها ثم تضعه خلف الباب، فإذا رآه أحدٌ من المارّين عرف أن صاحب الدار غائب فكان واجبا عليه أن يحمل العجين لبيته فيخبزه ثم يرجعه إلى بيتها خبزا!

أين هذه المقامات الرفيعة النبيلة من حالٍ يسمونه الآن حضارة ورقيا تعمل فيه المرأة قبل العاشرة أحيانا، نادلة في مقهى وعاملة في مصنع وخادمة في بيت أجنبي، في ظل مجتمع تعاقدي وقح، لا يرى فيها إلا عاملا قليل الكلفة ويحب أن تكون -فوق ذلك- “حسنة المظهر”!!.. وما ذلك إلا لكي تغريه أو يغري بها زبائنه!

إحدى مشكلاتنا العويصة حقا أننا لا نعرف كيف عاش المسلمون قبل تلك الحداثة، فعرفنا حال الجاهلية ولم نعرف طعم المجتمع المسلم..

فهل معنى هذا أن المرأة في تاريخنا المسلم لم تكن تعمل؟!

أبدا.. ربما عملت، كان هذا هو الاستثناء، تحت الضرورة والاضطرار، أو في مهن احتاجها المجتمع وقامت بها النساء، وهي حتى حين تعمل فقد كانت محاطة بقيم وأخلاق وأعراف تجعلها في عملها هذا مصانة موفورة مقدَّمة عند الازدحام يُوطَّأ لها المقام وتُسْتَثني -لكونها امرأة- من النظام!

أتفهم تماما أن كثيرا من الظروف المعاصرة ضغطت على كثير من البيوت فاضطرت النساء إلى العمل، نعم، قد بُلينا منذ أكثر من قرن بأفكار يسارية ترى في المرأة التي تسكن بيتها قوة عمل معطلة وتريد أن تدفع بها لزيادة الإنتاج ومراكمة الثروة وتحقيقا للهدف الأسمى (العمل) كما هو ضمن المنظومة اليسارية الاقتصادية.. ومعها وبعدها بُلينا بأفكار ليبرالية ترى في خروج المرأة سوقا عظيما ينفتح لمراكمة الثروة، ويفتح معه مجالات هائلة لتدوير الأموال.

تلك قصة طويلة مريرة وبائسة، ولا يتسع لها المقام، ويكفي أن ترى أن الليبرالية تأنف من عمل المرأة -تطبخ وتنظف وتغسل وتكوي- في بيت زوجها وترى ذلك من التخلف والرجعية، بينما ترى قيامها بنفس العمل في بيت جارها تحقيقا للذات وزيادة في الدخل.. فلو وُجِدت امرأتان جارتان في بيت واحد فإن النظام الليبرالي يحب لكل منهما أن تعمل في بيت الأخرى لتحصيل مرتب، ويأنف من أن تعمل كل واحدة منهما في بيتها لتوفر نفس المرتب!!!

الحضارة الليبرالية الغربية المعاصرة هي في حقيقتها حضارة تعذيب للإنسانية، أخرجت المرأة من بيتها لتعمل، لتعمل في ظروف عصيبة، لكي تحقق متطلبات هي في معظمها غير مهمة، بل هي وليدة سوق الدعاية والإعلان والإغراءات العظيمة التي تُنشئ في النفس الحاجات والشهوات. ولما خرجت المرأة صار مطلوبا منها أن تحقق مظهر المرأة الغربية المتأنقة المتزينة فصارت المرأة في بلادنا تحت عبء التقليد والتجميل والتزين لتحقيق مواصفات النجمة التي تراها في نفس الإعلام.

ولما صنعت المرأة كل هذا تعذب الرجل.. تعذب بها في الشارع إذ صارت كل امرأة فتنة، وقد ينزل الرجل من بيته وما في ذهنه حبة خردل من شهوة، فإذا بامرأة عابرة تقلب رأسه وخاطره وجسده جميعا! .. ثم تعذب الرجل بنزولها حين فقدها في البيت زوجة وأما لأولاده تحت ضغط حاجتها للخروج!

وبهذا صارت المرأة معذَّبة ومُعذِّبة معا..

نعم، أنا من قوم أحب لكل امرأة أن تقر في بيتها، ويسعى عليها بحاجتها الرجل المسؤول عنها، فإذا خرجت لحاجة أو لاضطرار أو لعمل فلا يكون ذلك إلا على الوجه الذي خرجت به أمهات المؤمنين وزوجات الصحابة والتابعين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى